ملحمة إســــقاط الديـــون في عهد الرئيس مبارك


ميلاد قائد ووفاء شعب

41055‏السنة 123-العدد1999مايو3‏17 من شهر محرم 1420 هـالأثنين

ملحمة إســــقاط الديـــون


تحقيق : عماد غنيم
المصدر: اضغط هنا
الرئيس مبارك ينصت بإهتمام شديد إلى
أراء الخبراء فى المؤتمر الاقتصادى
الذى عقد عام 1982َ
لأول مرة في التاريخ المعاصرينجح زعيم دولة في اقناع الدول الدائنة باسقاط جزء كبير من الديون المستحقة علي بلاده نتيجة لسياساته الناجحة
وقد كانت رحلة مبارك مع معالجة أزمة ديون مصر طويلة ومرهقة‏..‏ السياسة فيها سبقت الاقتصاد‏,‏ وحتي يمكن تقريب عظمة الانجاز للأذهان فإن حجم ما نجح الرئيس في اسقاطه من الديون يعادل ما تم انفاقه علي مشروعات ومرافق البنية الأساسية في‏15‏ عاما‏,‏ أو هو يعادل ميزانية مصر في عامين‏...‏ رحلة طويلة ومرهقة استطاع الرئيس بمهارة استغلال ثقل مصر الدولي لفرض قضية الديون الخارجية علي جدول أعمال المحافل الدولية وكانت لمصر الريادة في اقرار مبدأ دولي لم يعرف من قبل لاسقاط ديون الدول النامية‏,‏ وكان الفضل في هذا لمصر وللرئيس مبارك شخصيا بعلاقاته الواسعة والثقة التي يتمتع بها شخصه‏,‏ ليس فقط علي مستوي الدول الكبري في عالم اليوم ولكن كذلك في مختلف المحافل والتجمعات الاقليمية والدولية التي حرص منذ وصوله إلي الحكم علي ترسيخ الدور المصري بها‏,‏ مؤثرا فيها ومستفيدا بها في الضغط لتحقيق المصالح المصرية‏.‏
وكان حجم ديون مصر الخارجية عشية تولي الرئيس الراحل أنور السادات الحكم في أكتوبر عام‏1970‏ حوالي‏2,1‏ مليار دولار إلي أن قاربت الخمسين مليار دولار قبل لحظات من الاتفاق علي اسقاط‏50%‏ من ديون مصر الخارجية في اتفاق‏1991‏ من خلال نادي باريس‏..‏ فقد تضافرت مجموعة من العوامل الخارجية والداخلية لزيادة هذه الديون علي النحو الذي سارت عليه‏,‏ ولم تكن مصر استثناء في هذا الخصوص‏,‏ ففي هذه الفترة دخلت مجموعة كبيرة من الدول النامية فلك الاستدانة من الخارج بعد أن انهكت اقتصادياتها عمليات الاستقطاب التي جرت خلال الحرب الباردة طوال الخمسينات والستينات‏,‏ وبعد اللقاء الشهير بين الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون والزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف في عام‏1972‏ دخلت البشرية في عصر الوفاق الدولي بديلا عن عمليات الاستقطاب المحمومة خلال الحرب الباردة‏..‏ وقد كان لهذا الوفاق تداعياته الاقتصادية‏,‏ ففي ذلك الوقت كانت الشركات في الدول الصناعية تعاني الركود بعد أن انهت‏,‏ أوروبا وأمريكا اكمال منشآتها‏,‏ وضعفت معدلات النمو وقلت المشروعات الجديدة و راحت هذه الشركات تسعي للبحث عن فرص للأعمال خارج أوروبا‏,‏ ووجدت أن الدول النامية هي المجال الخصب لحاجتها الهائلة لمشروعات التحديث‏..‏ وكانت المشكلة في التمويل‏!‏
فبدأت هذه الشركات التفكير في الدخول لانشاء مشروعات في هذه الدول بقروض تقدمها الدول الصناعية والمؤسسات المالية الدولية علي أن تسدد هذه الدول ما اقترضته وفقا لترتيبات حكومية مع الدول التي تحمل جنسياتها هذه الشركات‏..‏ ومع ارتفاع أسعار البترول عقب حرب أكتوبر وتضخم السيولة النقدية في البنوك الأوروبية والأمريكية راحت هذه البنوك تسعي لاغراء الدول النامية للاقتراض برغم ارتفاع الفائدة في هذا الوقت منتصف السبعينات إلا أن حجم الاغراء وشدة الاحتياج دفعت الدول النامية للتوسع في الاستدانة الخارجية وهكذا بدأت مشكلة الديون الخارجية‏.‏

اقتصاد الحربفي هذا الوقت كانت مصر خارجة من اقتصاد حرب استمر‏7‏ سنوات‏,‏ وقد شرعت لتوها في انتهاج سياسات الانفتاح الاقتصادي‏..‏ وفي هذا المناخ اغراءات خارجية بالاستدانة‏..‏ واحتياج شديد للأموال والمشروعات‏,‏ دخلت مصر كغيرها في مجال الاقتراض‏,‏ وفي السنوات المتبقية من السبعينات كان هناك عمل محموم لانعاش الاقتصاد في مصر وفي مراحل الفورة طالت الاحتياجات مختلف المجالات وتوسعت الحكومات‏..‏ والأفراد في الاستدانة من الخارج وسط أجواء حماسية بفعل التبدلات السياسية وقرب الرخاء‏,‏ غير أن المشكلة كانت أكثر تعقيدا‏..‏

الاصلاح
رؤية ثاقبة من أجل تنمية
المشروعات لصالح المواطن المصرى
مع بداية توليه الحكم عقد الرئيس مبارك أول مؤتمر اقتصادي بالمعني العلمي لمناقشة أزمة اقتصاد مصر وذلك في فبراير‏1982..‏ وللانصاف فإن قضية الديون لم تحتل أولوية في مناقشات المؤتمر‏,‏ كانت هناك مشاكل أهم تصدي لها الخبراء والفنيون بالشرح والتحليل‏,‏ كانت ديون مصر في هذا الوقت ــ طبقا للبنك الدولي ــ حوالي‏21‏ مليار دولار غير أن المشكلة الحقيقية التي كشف عنها المؤتمر هي أن الاقتصاد الوطني كان في أزمة حقيقية ولم يكن بمقدوره الاستغناء عن القروض الخارجية لاوضاعه الصعبة‏..‏ في هذا الوقت قال الرئيس مبارك تعبيره المشهور الذي كرره مرات فيما بعد المشكلة اننا كرب الاسرة الذي تضطره الظروف لان ينفق اكثر مما يكسب فهو يكسب‏70‏ وينفق‏100‏ كان الموقف كله صعبا وقد كشف المؤتمر الاقتصادي عن خيارين احلاهما مر‏...‏ اما التقوقع وتسكين المشكلات وابطاء معدلات النمو وترحيل المشكلات ليعالجها جيل آخر‏,‏ واما التصدي للمشكلات المؤجلة واقتحام اوجه القصور وخلق بنية اساسية قادرة علي جذب استثمارات حقيقية وبناء قواعد حقيقية لاقتصاد متين ومتوازن‏.‏
اختار الرئيس الطريق الصعب وشرع في التنفيذ‏..‏ وكان لهذا الاختيار تكاليفه التي من بينها اللجوء الي الاقتراض الخارجي‏...‏ ولكن في هذه المرة لانشاء مشروعات حقيقية ومرافق يحتاجها الناس والاستثمارات الجديدة‏,‏ وفي هذا الوقت عادت البلاد لتبني اسلوب الخطط الخمسية كطريق منتظم للتحديث والتنمية وبدأت اول خطة في العام المالي‏83/82‏ كما بدأ الاصلاح الاداري والمالي والنقدي في خطوط متوازنة‏,‏ وكان كل ذلك يحتاج الي تمويل من الخارج‏.‏

بوادر القلقفي عام‏1983‏ ووسط توجه عالمي بتوسيع عمليات الاستدانة ظهرت بوادر القلق بين الاقتصاديين المصريين من تفاقم ازمة المديونية واثرها علي البلاد كان الدين الخارجي قد ارتفع الي‏32‏ مليار دولار بفعل ارتفاع الفوائد في ذلك الوقت والتعثر في السداد كانت خدمة الدين تستنزف بين‏30‏ و‏40%‏ من موارد مصر من النقد الاحنبي واصبح الوضع حرجا‏...‏ في هذا الوقت ظهرت دعوة اطلقها احد رجال الاعمال للمساهمة الشعبية في سداد ديون مصر‏,‏ ورغم الترحيب الواسع بالاقتراح الا ان النتائج كانت محدودة للغاية بلغت جملة المساهمات‏157‏ الف جنيه و‏750‏ الف دولار‏,‏ وبدءا من هذا التاريخ اصبحت قضية الديون احد الملفات التي يتم عرضها في جولات الرئيس الخارجية‏...‏ فيما بعد ظهر ان هناك زيارات بكاملها خصصها الرئيس لتليين مواقف الدول الصديقة من ازمة تعثر السداد خلال عامي‏84‏ و‏85.‏ وفي خضم عملية اصلاح مرهقة كانت ديون مصر الخارجية تزداد نموا‏..‏ وبرغم التوجيهات الصارمة بقصر الاستدانة الخارجية في اضيق حدود الا ان عوامل فنية كانت وراء تضخم‏(‏ كرة الثلج‏)‏ فقدد زاد عجز الميزانية الي‏23%‏ من الموارد وارتفع سعر الدولار مقابل الجنيه مما زاد من عبء المديونية‏,‏ اضافة الي السبب الرئيسي والمستمر والمتعلق بارتفاع الفائدة علي القروض وقت الحصول عليها في السبعينيات‏...‏ في نهاية‏1985‏ ظهرت الدعوة الشعبية الثانية لسداد ديون مصر هذه المرة كانت اكثر قوة‏..‏ واكثر عصبية فقد شارك فيها رجال الاعمال والفن وحتي الرياضيون وعرض النادي الاسماعيلي اول كأس افريقية حصل عليها للبيع لصالح سداد الديون‏,‏ وظهرت دعوات لبيع مقتنيات مصر الفنية لتسديد الديون ورغم رفض الاقتراح الا انه كان مؤشرا لحالة القلق العام من تضخم الديون الخارجية‏..‏ كانت سياسة مبارك قائمة علي المصارحة فتدعمت المشاركة الشعبية في عمليات الاصلاح الاقتصادي‏,‏ وهو ما أتي بثمار طيبة فيما بعد‏...‏ وبرغم المشاعر الطيبة وقوة الاحساس بالمسئولية الشعبية كانت نتائج الحملة هي الآخري متواضعة‏24‏ مليون جنيه و‏12‏مليون دولار‏..‏ في نهاية العام ذكر صندوق النقد الدولي ان ديون مصر الخارجية بلغت‏43‏ مليار دولار بينها‏7‏ مليارات دولار ديون عسكرية للولايات المتحدة الامريكية‏,‏ لقد اصبحت القضية في حاجة لحل سياسي‏...‏ هكذا ادركت الادارة في مصر كما يتضح فيما بعد‏.‏

البحث عن حل سياسيبدأ عام‏1986‏ دون ما يشير الي اتجاه مصر لجدولة الديون الحكومية‏,‏ وعلي العكس يسجل الأهرام تصريحا لوزير الاقتصاد في ذلك الوقت ينفي فيه السعي للجوء الي نادي باريس وهو التجمع الدولي للبحث في اعادة جدولة ديون الدول المتعثرة المستحقة للدول الاخري وهي الدول الصناعية بشكل اساسي‏..‏ غير انه مع حلول منتصف العام ظهرت بوضوح مؤشرات علي نية الحكومة لجدولة الديون بعدما اصبحت عبئا يفوق القدرة علي الاحتمال‏,‏ وشهد العام عدة زيارات للرئيس الي اوروبا وامريكا لبحث الامر واقناع الدائنين بمبدأ الجدولة وكان الامر يحتاج الي تدخل الصندوق والبنك الدوليين‏...‏ في نهاية العام صنفت مصر في المرتبة السابعة بين‏155‏ دولة في العالم تعاني من عبء الديون الخارجية علي موازين مدفوعاتها‏.‏
في عام‏1987‏ نشطت المفاوضات مع الصندوق لوضع اسس الجدولة وشحذ الرئيس كل جهوده للوصول الي اتفاق مرض مع المؤسسات المالية الدولية بالضغط من خلال الدول الحاكمة في العالم لتسهيل شروط الاصلاح الاقتصادي وفي الحسبان دائما عدم تحميل الفئات الكادحة عبء عمليات الاصلاح وتحقيقا لهذا الهدف دخلت مصر مفاوضات مضنية وتحملت الكثير حتي استطاع الرئيس اقناع الدول الصديقة ان مصر لن تقبل اتفاقا بأي ثمن وأن الاعتبارات الاجتماعية لها اولوية قصوي في تقدير اية اعباء جديدة يمكن قبولها للخروج من عنق الزجاجة‏...‏

أزمة الديون العسكرية
مبارك وعلاقات قوية
مع الرئيس الأمريكى كلينتون
في هذا العام تفاقمت ازمة المديونية العسكرية للولايات المتحدة وللتذكرة فان المديونية التي بلغت جملتها‏7‏ مليارات دولار جاءت من مشتريات تم التعاقد عليها في السبعينيات بفائدة مرتفعة بلغت‏16%‏ ورغم تراجع اسعار الفائدة فيما بعد الا ان القوانين الامريكية كانت تلزم مصر بسداد الفائدة المرتفعة كانت مديونية السلاح تكلف الخزانة العامة مليوني دولار يوميا لسدادها‏,‏ وكانت معركة المفاوض المصري لحل هذه المشكلة مرهقة وعنيدة حتي تسني اقناع الولايات المتحدة لاول مرة بسن قانون خاص يقضي باسقاط هذه المديونية كلية في عام‏1990.‏

ملحمة سياسيةكانت سنوات‏88‏ و‏89‏و‏90‏ ملحمة ديبلوماسية وسياسية قادها الرئيس مبارك شخصيا بصبر و اصرار للبحث عن حل سياسي لازمة المديونية وقبل النهاية السعيدة في نهاية عام‏1990‏ تعرضت مصر لكثير من الضغوط في اطار هذه المعركة بلغت حد التهديد بالحصار الاقتصادي ووقف المساعدات الدولية كلية ما لم تنتظم مصر في سداد الديون والتي كانت تبلغ خدمتها السنوية حوالي‏5,5‏ مليار دولار سنويا بما يعادل نصف موارد البلاد من النقد الاجنبي‏,‏ وقد احتاج الامر لان تبني مصر رأيا عاما دوليا لتوضيح ازمة الديون واسبابها وتأثيرها علي اقتصاديات الدول النامية وربما لهذا السبب نفسه كانت شراسة الرفض من الدول الغربية لمطالب مصر خوفا من ضياع مليارات الدولارات تمثل ديون العالم الثالث التي تطالبها بها الدول الصناعية ومع ذلك واذا كانت العبرة دائما بالنتائج‏,‏ فان هذه المعركة التي قادها الرئيس نيابة عن العالم الثالث افلحت في النهاية في اقناع دول الشمال الغنية باسقاط‏50%‏ من ديون الدول النامية بل وشطب ديون الدول الاقل نموا كلية بحلول عام‏1995..‏ وكان لمصر فضل الريادة وفضل التصدي لهذه المشكلة علي مستوي العالم كله‏.‏

النهاية السعيدة
الرئيس مبارك
مع المستشار الألمانى الابق هيلموت كول
في عام‏1990‏ كان حجم الديون الاجنبية قد بلغ‏48,6‏ مليار دولار طبقا للبنك الدولي‏...‏ كانت التحركات السياسية المتتابعة لمصر في مسألة حل مشكلة الديون قد قاربت علي نهايتها بعد خمس سنوات من العمل المضني شملت عدة زيارات لأوروبا وامريكا للمفاوضين المصريين بقيادة الرئيس مبارك للتفاهم حول حل سياسي للازمة وقد احتاج الامر الي دخول الصندوق والبنك الدوليين كطرف اصيل في هذه المفاوضات‏...‏ وفي نهاية العام نجح الرئيس في اقناع الغرب بالتسليم في حق مصر باسقاط جانب من الديون واصبح التفاوض قائما علي حجم ما ينبغي اسقاطه وكيفية سداد ما يتقرر تسديده في نوفمبر‏1991‏ عدنا مرة اخري الي نادي باريس هذه المرة بموقف مختلف‏,‏ فقد كانت الارادة السياسية للدول الدائنة مستجيبة للموقف المصري بتأثير الثقل السياسي لمصر والسمعة الدولية التي كونها الرئيس في تعاملاته مع العالم‏,‏ وهكذا وافقت‏17‏ دولة في نادي باريس علي اسقاط‏50%‏ من ديونها لدي مصر البالغة‏21‏ مليار دولار علي شرائح خلال‏3‏ سنوات ولم يكن هذا هو الانجاز الوحيد فقد وافقت دول نادي باريس ـ لاول مرة ـ علي سداد الجزء المتبقي علي‏25‏ عاما مع فترة سماح‏3‏سنوات وبفائدة ميسرة‏..‏ قبل ذلك بايام نجح الرئيس في اسقاط الديون العسكرية بالكامل‏,‏ كما نجح كذلك في اقناع الدول العربية في اسقاط مديونية مصر تجاهها والبالغة‏6,7‏ مليار دولار‏,‏ ومع بداية عام‏1991‏ تقلصت مديونية البلاد الخارجية الي‏24‏ مليار دولار في واحدة من اكبر النجاحات السياسية والاقتصادية التي حققتها مصر في القرن العشرين‏.‏
لقد كانت معركة اسقاط المديونية التي انتهت بنجاح في منتصف عام‏1991‏ هي البداية الحقيقية لانطلاق الاصلاح الاقتصادي الذي اثمر نتائج مبهرة من اهمها ان مصر بلغت ديونها في وقت من الاوقات‏50‏ مليار دولار اصبحت تمتلك احتياطيا نقديا يزيد علي‏20‏ مليار دولار‏,‏ بما يكفي احتياجات مصر من النقد الاجنبي لما يزيد علي‏14‏ شهرا لاول مرة في التاريخ الحديث‏.‏