رجل وسلاح وأعصاب


 

 رجل وسلاح وأعصاب
بقلم: محمد حسني مبارك عام 1976 
الجزء السابع 
___________________________________________

إن الأسلحة الفتاكة, وإن كانت أهم عناصر النصر في الحروب الحديثة, فإنها في حاجة إلي الرجال الذين يتحكمون فيها كما أن هؤلاء بدورهم لابد لهم من صفات خاصة,أهمها القدرة علي التصرف الرزين
وضبط الأعصاب, مع التحكم في مختلف المواقف العاطفية والإرادية, إلي جانب تدريب نفسي شديد القسوة.
إن اعتماد أي عمل ناجح علي القدرات الجسمانية والنفسية للإنسان ليس بالشئ الجديد, فقد كان ذلك معروفا منذ أمد طويل, ولكن ما كاد منتصف القرن العشرين يهل حتي برزت القيم السيكولوجية, فأصبحت عونا للإنسان فيما يقوم به من مجهود, بما في ذلك النواحي العسكرية.
وما أن أخذت الوسائل العسكرية في التطور بإدخال الأسلحة الحديثة, حتي برزت إلي جانبها أنواع جديدة, من الحرف العسكرية التي تركز بعضها أهمية كبري علي الصفات السيكولوجية للمقاتل, فقد أصبحت الحاجة ماسة للقدرة علي تفهم أقصر الإشارات, واستظهارها في التو واللحظة, وكذلك القدرة علي تقدير الموقف بسرعة في قراءة العدادات, ثم التصرف طبقا لذلك بدقة واحكام.
كما أصبحت الحاجة ماسة ليس فقط إلي استغلال صفات المقاتل ومعلوماته, بل أصبح من الضروري كذلك تدريب قدراته النفسية, مع إبراز وتنمية المهارات الضرورية, أن جميع المهارات البشرية ما بين حسية وعقلية, وإرادية, علي الرغم من أنها جميعا تتداخل مع بعضها, فإن واحدة منها لابد وأن تبرز من بين الأخري في اتجاهات معينة, وعلي هذا فإن القدرات الإرادية تستخدم في تشغيل أنواع الأسلحة والمعدات, فتنمي أولا في سائقي السيارات والميكانيكيين, وعمال المدفعية, وحملة البنادق.
أما في حالة تشغيل الأجهزة الحاسبة, وأعمال القيادة علي جميع المستويات, فإن الأولوية تعطي لذوي المهارات العقلية, وهي المهارات القادرة علي تحليل المعلومات وتوزيع الواجبات, وتقدير الموقف, وإعداد القرارات وإصدارها.
أما القدرات الحسية فيحتاج إليها بعض الإخصائيين, لاسيما في الأعمال المرتبطة بأعضاء الحواس, لقراءة مدلولات العدادات, وتقدير المسافات والتمييز بين الأنواع المختلفة من الأصوات والضوضاء, والتمييز بين مختلف المواد بواسطة حاسة الشم, أو قراءة الخرائط والمخططات.
وعلي أي حال, فإن الناس يختلفون في مدي قدراتهم علي الحس أو التذكر, أو التفكير, أو الاستجابة للمؤثرات الخارجية, وبينما يدهشك البعض بما يبدونه من تشتت التفكير يدهشك آخرون بحدة ذهنهم, وقوة ملاحظاتهم, وبينما البعض يتذكر المسموعات, تري آخرين يتذكرون المرئيات فقط.
إن هذه الاختلافات في القدرات النفسية, لابد وأن يكون لها آثرها في الشئون العسكرية, فبينما نجد شخصا يؤدي واجباته في سهولة ظاهرة, نجد بعض الواجبات الأخري تعجز أمامها قدرات الآخرين, وقد يكون في الاستطاعة في أغلب الأحيان, تعويض الخلاف بين القدرات النفسية, وبعض أنواع العمل, بواسطة التدريب والتعليم, غير أنه توجد بعض أنواع التخصصات يستحيل أن تفيد فيها أقصي التدريبات للحصول علي نتيجة طيبة.
ولهذا السبب يجب أن يبذل الجهد لاختيار الإخصائيين طبقا لقدراتهم السيكولوجية, ليس فقط عند انخراطهم في الوحدات العسكرية, بل عند بدء تجنيدهم, حيث يوزع هؤلاء المجندون علي الوحدات المختلفة, طبقا لقدراتهم الجسمانية والنفسية, فأعمال الرادار مثلا, والاتصالات اللاسلكية, ينتقي لها الشبان الذين يمتازون بحضور الذهن, وحدة البصر والسمع, ولهم إلمام بالمبادئ الكهربائية واللاسلكية, أما أعمال التليفون, فيختارون من ذوي الفصاحة والحديث, ووضوح النطق, ويقوم الأطباء النفسيون في القوات المسلحة الحديثة بإجراء الاختبارات, واستخدام الأجهزة والوسائل المختلفة. لقياس قوة الذاكرة, وسرعة الخاطر, ودرجة الاستجابة للانفعالات حتي يستفاد من مختلف القدرات.
غير أن هذا الاختبار علي الأسس السيكولوجية إنما هو مرحلة أولية يعد بعدها العسكريون للقيام بالأعباء المختلفة من المهارات والتكنولوجيا, وقد لوحظ أن قدرات الإنسان الواحد, وقوة انتباهه ليست بنفس الدرجة والقوة, في أيام الأسبوع المختلفة, أو ساعات النهار المختلفة, ويحسن أن يكون القيام بالمهارات الجديدة المعقدة في ساعات الصباح في الأيام الوسطي من الأسبوع, أما تكرارها وتركيزها فيكون في أوقات أخري, إن الدراسة الفردية لحالة كل شخص مع الأخذ في الاعتبار نواحي مزاجه وقدراته, وخبرته إنما تساعد علي أن تتكون فيه العادات المطلوبة للعمل بصورة أكثر فاعلية, واقتصادا, ويحاول الضباط إثارة شغف الجنود, بما تخصصوا فيه, ويساعدونهم علي نفس أعمالهم وأخطائهم, مع لفت أنظارهم في الوقت المناسب لعيوبهم الصغيرة منها قبل الكبيرة.
غير أن العادات لم تصل بعد إلي درجة المهارات, فالأخيرة تأتي بعد سلسلة من التدريبات عندما ترسخ المعلومات في الأذهان, وعندما يتقن الفرد جميع الطرق والوسائل للقيام بما يعهد إليه به من مهام, ويكون معدا لمجابهة مختلف الضغوط العصبية, وتركيز الذهن, في جو من المؤثرات العنيفة الخارجية كضوضاء المعامل, وهدير الطائرات, وانفجارات القنابل.
أما الانفعالات والتأثر بجو المعركة, إنما يعود بالضرر علي نتيجة القتال, لذا وجب ألا يستسلم الإنسان للاضطراب, وذلك بتركيز كل اهتمامه علي متطلبات المعركة, فالخوف والاضطراب لايمكن أن يتملكا الرجل العسكري الذي ينسي نفسه في سبيل واجبه, ويعرف مسئولياته تمام المعرفة, ويجيد استخدام أسلحته ومعداته, وعلي النقيض فإن الاخصائي الذي يفترض فيه معرفة بعض واجباته يقع فريسة للاضطراب والتردد, بل التبلد الذهني الذي يعتبر خاصية من خواص الصدمة النفسية.
لقد شوهد أحد الفنيين ذات مرة, وقد تملكه الاضطراب, حيث تشكك في عمله المكلف به, ونتج عن ذلك أن ارتكب خطأ, ولكنه حاول تصحيحه في الحال, غير أن تصرفاته بدت عليها الحيرة, مما دفعه إلي ارتكاب أخطاء جديدة, عند ذلك تدخل قائد وحدته فأصلح الخطأ, ولكنه قام بذلك عن ثقة وفي هدوء, وهو يعلم أن صيحة مفاجئة أو كلمة قاسية ستزيد من ارتباك الجندي, وتثير أعصابه, وتصرف القائد علي هذا النحو بحكمة وضبط النفس, يعتبر تصرفا مثاليا حيث تمثلت فيه السيطرة النفسانية علي مرؤوسيه, ومثل هذا القائد قد لاتختلج عضلة واحدة علي وجهه في أثناء القتال, وهو يصدر أوامره في وضوح وثقة.
ومن أمثلة التصرف السقيم, ماحدث في أحد معاهد الطيران حين أصر مدرب علي طرد طالب لم يظهر تقدما كافيا في تعلم الطيران, حيث كان يبدو عليه الارتباك حين يصدر إليه الأمر بالقيام بحركة معينة مما جعله متوتر الأعصاب, ولكن قبل أن يستجيب قائد المعهد لطلب المدرب أخذ في دراسة سجل الطالب, والتعرف علي ظروفه, فوجد أنه قد سبق له التدريب مع مدرب سابق, كان يري أنه لائق للطيران, ولما طار القائد معه وجد أنه صالح للطيران, وإن كانت حالته دلت علي أنه سريع التأثر, ومعرض للاضطراب, وهو أمر لم يلحظه المدرب فعامله معاملة غيره, وأخذ يسخر من أخطائه, ففقد الطالب ثقته بنفسه, ولكم ينقم علي مدربه حيث صار يعتقد أنه لايليق للعمل كطيار.
ومن هذا يتضح أن عجز المدرب عن تفهم الصفات الفردية لحالة الطالب النفسية قد أدي إلي نوع من عدم التفاهم بين الاثنين نجمت عنه حالة عصبية من عملية التدريب.
إن المعارك الحديثة تفرض واجبات ثقيلة علي معنويات المقاتلين, وعلي مستويات التدريب النفسي وهذه المطالب تزداد عنفا بوجه خاص فيما يتعلق بهؤلاء المشتركين في القتال فإن كل واحد من هؤلاء يجب أن يكون علي قمة الاستعداد للدخول فورا في معارك ضد العدو, وبذل أقصي مافي استطاعته والتضحية بحياته عند الضرورة في سبيل النصر.
إن التدريب علي واجبات القتال يتشعب في عدة اتجاهات من بينها: التعليم العقائدي والثقافي لبث روح اليقظة, والاستعداد الدائم لدخول المعركة والثقة بالنصر, كما يهدف هذا التدريب إلي بث روح المسئولية الشخصية في الجنود للنهوض بأعباء القتال.
إن الإعداد لخوض المعركة يبث في الجندي من الدوافع العاطفية مايحمله علي مضاعفة مقدرته القتالية, وشحذ تفكيره, والتغلب علي كل إجهاد نفسي خلال الساعات الخاصة بالعمل, ولابد من الاحتفاظ في نفوس المقاتلين بالمشاعر النفسية الايجابية, وإطراء نتائج أعمالهم, وتشجيع الممتازين منهم, ودراسة الأخطاء التي تقع من بعضهم, ويجدر أن تكون زيادة الأعباء النفسية بصورة تدريجية طبقا لدرجة احتمال كل فرد منهم, مع منح فترة للراحة عند ظهور الإعياء.
إن في استطاعة الإنسان أن يحتفظ بطاقة عالية للقيام بالعمل, ثم يعقب ذلك فترة استرخاء بعد فترة معينة, تختلف باختلاف الأشخاص, ومن علامات التعب الاضطراب في تناسق الحركات, وزيادة عدد الأخطاء.
ولكن كيف يمكن إطالة زمن القدرة علي أداء الأعمال؟ لقد دلت التجارب علي أن هذا يتطلب رقابة محكمة, وتجديدا في الوسائل, وتجنبا للرقابة المملة, إن وجود الرقابة الدائمة تؤثر في الحالة النفسية فتزيد من يقظة الإخصائيين, كما تؤخر ظهور أعراض التعب.
وكما أن النبات لايستطيع أن يزدهر في بيئة لايتعرض فيها للعوامل الجوية من حرارة ورياح, كذلك فإن الشخص العسكري لن تشحذ همته مالم يجابه من المواقف مايتطلب منه بذل الجهود الجسمانية والنفسية, وفي أثناء التدريب علي القتال لابد من إيجاد المواقف التي يستطيع فيها تذوق طعم المعركة مع العدو, فتزدهر معنوياته, ومواهبه التي لابد منها لاحراز النصر.
______________________________________________________